ليس هينا على حركة النهضة التي تحصلت على العدد الأكبر من المقاعد بالبرلمان أن تستسلم لاكراهات الواقع ولتشتت المشهد اثر الاستحقاق الانتخابي الأخير، لتظل متمسكة أشد ما يكون التمسك بتولي رئاسة الحكومة المقبلة
تمسك النهضة، بأحقيتها في ترؤس الحكومة المقبلة ورفعها سقف الشروط الى مستوى غير قريب من الأدنى المجمع، جعلها توصد ولو آنيا، أمام نفسها عددا من أبواب المناورة المتاحة مع مختلف الأطراف المعنية بالحكم في الفترة القادمة، وتطوي صفحة سيناريوهات تحالفات كان يمكن عقدها بسهولة، في مرحلة انتقالية وغامضة تمر بها أجهزة الحكم، ووضع صعب داخل الحركة ذاتها
موقف حاسم عبرت عنه الحركة ومؤسساتها، وأمر احتدم حوله النقاش صلب هياكلها، اذ تجمع الأغلبية النهضاوية، على ضرورة المسك بزمام الأمور في هذه المرحلة ودخول القصبة مرة أخرى، بعد أن انحنت الحركة حتى تمر العاصفة بين 2013 الى 2018 ، مكتفية بالمشاركة في الحكم والتموقع خلف الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، في مرحلة داخلية واقليمية شهدت موجة قوية من الرياح العاتية التي استهدفت مشروع الحركات الاخوانية وحلفائها .
ويمكن تعداد أسباب تمسك الحركة برئاسة الحكومة في هذه المرحلة كآلاتي:
أولا: مسؤولية وعلاقتها بتآكل الرصيد الانتخابي : مشاركة حركة النهضة الحكم مع نداء تونس، باخراج فني عرف ب »التوافق »، بقدر ما حافظ على الحركة وزاد في تثبيتها بالمشهد السياسي الجديد ما بعد 2011 في تونس، بقدر ما سبب تآكل رصيدها الانتخابي وتراجع شعبيتها، اللذين تترجما بتقلص عدد المصوتين لصالحها انطلاقا من الانتخابات البلدية المنجزة في 2018، الى الاستحقاقين الأخيرين التشريعي والرئاسي، فتراجعت نسب منتخبي الحركة الى النصف
مشاركة النهضة الحكم مع حزب نداء تونس المتذبذب والذي شقته الصراعات المشخصنة، مع تواصل حرب كسر العظام بينهما، كل يحمل الاخر مسؤولية فشل الحكم ، وكل يتنصل من المسؤولية، أنهى نداء تونس بالضربة القاضية وسبب في تراجع قياسي لحركة النهضة التي فازت في الاستحقاق التشريعي بالغياب، بعد أن غاب المنافسون الحقيقيون القادرون على مقارعتها
ثانيا: الدستور ونظام الحكم: يفرض الدستور التونسي على الحزب الفائز بأكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، ضرورة تكوين الحكومة، أمر تعلم الحركة جيدا أنه ركيزة لطبيعة النظام السياسي الذي ساهمت في تركيزه بنفسها أيام المجلس التأسيسي، والذي يكرس التعددية ويوزع السلطة التنفيذية بين القصبة وقرطاج، فالحركة تعيش « فوبيا » مركزة السلطة بيد الرئيس، الذي عانت من ويلاته لأكثر من أربعة عقود، و بالنسبة لها هو الطريق الأقصر لعودة شبح الدكتاتورية وما قد ينجر عنها
ثالثا: المعارك الداخلية الطاحنة التي تعيشها الحركة: لم تهدأ المعركة التي تشق الحركة، التي انطلقت من مؤتمرها العاشر الى اليوم، اذ ينتقد جزء واسع صلب الحركة يمثله قياديون بارزون التمشي والاستحواذ على القرار ، كما يحمل هؤلاء قيادة الحركة وبالخصوص رئيسها راشد الغنوشي مسؤولية تراجع شعبية الحركة وثقة الناخبين في خياراتها و انحنائها لخصومها، وعدم تحمل مسؤوليتها. وقد يكون لتبرئ النهضة من مسؤوليتها في تكوين الحكومة المقبلة أثره على موازين القوى صلب الحركة وقد ينعكس في مجريات الأمور داخلها، مع اقتراب تنظيم مؤتمرها القادم، الذي يتوقع المتابعون والنهضاويون أنفسهم، أن يغير في صورة الحركة وأسلوبها السياسي وحتى في قيادتها
رابعا: إرضاء الشركاء في الخارج: التذبذب في ادارة الحكم خلال السنوات الأخيرة ، تعد الملاحظات المتكررة بالنسبة للمانحين الدوليين، فالاقتصاد التونسي لا يمكن أن يستغني اليوم عن السيولة التي تضخها البنوك العالمية وشركاء تونس في الغرب والمشرق، وهي قوى ومؤسسات لا توزع أموالها اعطباطيا أو دون ضمانات تجسيد لاستقرار سياسي ودون أن يتم ضمان مصالحها على المدين المتوسط والبعيد، لذا تسعى النهضة للحكم لمزيد التقرب من هذه المؤسسات وتلك القوى العالمية والاقليمية لتثبت وجودها في البلاد ومؤسسات حكمها نهائيا وتنتهي من مرحلة التوجس والمخاوف من عودة شبح التهديد الذي رافقها منذ نشأتها( بغض النظر عن أسباب ذلك، التي يطول شرحها
حركة النهضة، تعول في الحكم اليوم، على حلفائها الاقليميين اللذين لا يخفى على أحد ولاءها غير المشروط لها، وهي بالخصوص قطر وتركيا، الداعمين السياسيين والاقتصاديين والماليين الأبرز للحركة، وقد كانت تركيا أول محطة لراشد الغنوشي اثر انتهاء الانتخابات الفارطة
خامسا: خطر قيس سعيد: رغم أنها استبقت التطورات الحاصلة بالواقع، وكانت أولى الأحزاب التي عبرت عن دعمها لقيس سعيد، في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، الا أن الشرعية الانتخابية الواسعة التي يحظى بها رئيس الجمهورية، وبداية تكون حزام سياسي صلب حوله، أصبحت مسألة مريبة للحركة التي حافظت على تماسكها وطليعتها في المشهد السياسي خلال العشرية الأخيرة، أمر لن تقبل به النهضة، مكرسة استحواذها على رأس السلطة التنفيذية الذي يعطيه المشرع الصلاحيات الأكبر والأشمل، بتفويض رئيس حكومة مقبل نهضاويا، أو في أقصى الحالات، ليس ابنا للحزب، وانما خاضعا لإرادة الحركة ، مقدما فروض الطاعة والولاء لها