(عباس محمود العقاد)
في عام 1907م كتب عباس محمود العقاد، الأديب المصري المعروف، مقالة صحفية بعنوان « الاستخدام رق القرن العشرين » عقب استقالته من وظيفته الحكومة، في ذلك الوقت كان العقاد يبلغ من العمر 18 عاما، وانتقل من موطنه الأصلي من أسوان إلى محافظة القاهرة ليعمل في الصحافة، فعمل في جريدة الدستور من 1907 حتى توقفت الجريدة عام 1912، ثم عمل بجريدة المؤيد وجريدة الأهالي، ثم جريدة الأهرام، يليها جريدة البلاغ عام 1923.
لكن العمل الصحافي لم يوفر للعقاد دخلا كافيا لسد احتياجاته، فدفعته الحاجة إلى المال إلى البحث عن الوظيفة الحكومية (الاستخدام) الذي طالما نفر منها، فبدأت رحلته مع الوظيفة من داخل مصلحة التلغراف، ومنها إلى مصلحة السكة الحديد، ثم ديوان الأوقاف، حتى استقال منهم كلهم الواحدة تلو الأخرى[1]، وبعدما استقال، كتب العقاد مقالته « الاستخدام رق القرن العشرين » والذي وصف فيها ثورية قرار الاستقالة حينئذ قائلا: « ومن السوابق التي أغتبط بها أنني كنت فيما أُرجِّح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين ».
ويشرح العقاد سبب اتخاذه لهذا القرار مستكملا: « إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها.. فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية.. إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين »[2].
فكان العقاد من أوائل العرب الذين نادوا بالتخلص من أسر الوظيفة الرتيبة، مشبها إياها بالرقيق في الأزمنة القديمة، واليوم تتردد بعض المقولات بأن ثمة تشابها بين مفهوم الوظيفة المعاصر ومفهوم الرقيق قديما، فما هي أوجه التشابه بينهما؟ وكيف تتم المقارنة بينهما؟ وهل يمكن اعتبار الوظيفة شكلا من أشكال العبودية فعلا؟
بحكم تعريفها، فإن العبودية تعني في اللغة الخضوع والطاعة، أما في الاصطلاح فيُقصد بها امتلاك الإنسان للإنسان، وهو ما يسمى بالرقيق، والرقيق أو العبد هو الإنسان محروم الأهلية المملوك لغيره كله أو بعضه[3]. ولا يوجد وقت معروف بدأت فيه ظاهرة الرق تحديدا، لكن ما عثرنا عليه من وثائق تاريخية يبيّن أن ظاهرة الرق عريقة في القدم إلى حدّ أنها كانت معروفة لدى جميع حضارات العالم التاريخية تقريبا[4]، من الفراعنة إلى الآشوريين، ومن العرب إلى الفرس، ومن حضارة الصين إلى حضارة الإغريق، فلماذا نشأت ظاهرة الرقيق ابتداء؟!
يرى ول ديورانت، المؤرخ الأميركي، أن ظاهرة الرق بدأت مع انتقال الإنسان من طور الصيد إلى طور الزراعة، فالصائد، كما يرى ديورانت، كان يعتمد على نفسه في جلب ما يكفي من الطعام له ولأسرته النووية الصغيرة، ولم يكن بحاجة إلى فم إضافي لمساعدته، لكن لمّا تجمع الناس في البلدات والمدن وبدأت المجتمعات الإنسانية تظهر إلى الوجود، صار المطلوب من الغذاء أكبر ومن ثمّ ظهر الاحتياج إلى أيدي عاملة، وتم اللجوء إلى فكرة الرقيق وامتلاك الإنسان للإنسان كوسيلة توفير لهذه الأيدي العاملة.
يقول ديورانت: « بينما كانت الزراعة تُنْشئ المدنيِّة إنشاء فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية، انتهت كذلك إلى نظام الرق الذي لم يكن معروفا في الجماعات التي كانت تقيم حياتها على الصيد الخالص »[5]. ويظهر من كلام ديورانت أن استغلال الإنسان للإنسان هي إحدى خصائص الإنسان المتحضر، وليس كما يظن البعض بأنها صورة حصرية للمجتمعات البدائية وإنسان الكهف.
ويتفق كارل ماركس، المُنظّر اليساري، مع ديورانت، فهو يرى أن المجتمعات الإنسانية تقوم جوهريا على العبودية، حيث ينقسم البشر بطبيعتهم إلى فئتين: فئة مالكة وفئة مملوكة، ويرى أن « المجتمع والعبودية وُلدوا معا »[6]. ومن ثم يصبح السؤال بالنسبة إليه ليس في وجود العبودية من عدمها وإنما في شكل العبودية التي يقوم عليها التقسيم الطبقي للمجتمع.
يبدو إذن أن استخدام الإنسان للإنسان هو أمر ملازم للتقسيم الطبقي لأي مجتمع، وبالتالي تصبح فكرة استخدام الإنسان للإنسان هي فكرة مستحيلة الإلغاء في إطار أي حضارة أو مجتمع إنساني. وفي عصر يدّعي فيه الناس بأنهم يعيشون بعصر تقدمي اختفت فيه تجارة الرقيق واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، فكيف نفهم إذن العبودية في العصر الحديث؟ وإلى أي مدى يمكننا أن نقارن مفهوم الوظيفة مع مفهوم الرقيق؟!
« اليوم، وكما كان الوضع دائما، ينقسم الناس إلى مجموعتين: عبيد وأحرار. ومن لا يملك ثلثي يومه لنفسه فهو عبد، أيا ما كانت وظيفته: رجل دولة، رجل أعمال، موظف، أو عالم »
(فريدريش نيتشه)[7]
مع انتقال الحضارات الإنسانية من الطور الزراعي إلى الطور الصناعي، تحول تعريف الوظيفة المعاصرة في إطار العالم الرأسمالي الحديث إلى أنها « استقطاع ساعات معينة من وقت الشخص لصالح مؤسسة أو شركة أو شخص ما، مقابل تقاضي أجر محدد أو منفعة محددة »[8].
ويشرح ماركس هذا التغير في شكل العبودية من رق الإقطاع الزراعي التقليدي إلى الوظيفة الحديثة قائلا: « خلال عملية حظر الرق لم يزعم أحد بأن الثروة أو امتيازاتها قد أُلغيت.. ومن ثم كان لزاما أن تبقى الأشياء كما هي مع اختلاف الأسماء فقط.. العبودية إذن خُلدت في الأرض، لكن تحت اسم ألطف، إنها الآن مزينة باسم الخدمة [الوظيفة] »[9].
هذا الاسم اللطيف [الوظيفة] جعل الناس يتقبلون فكرة العمل لدى سيد تحت عنوان « موظف » وليس « عبد »، لكن رغم اختلاف اللفظين فإن المعنى تقريبا واحد، ولهذا يرى ديفيد جريبر، أستاذ الأنثروبولوجي في مدرسة لندن الاقتصادية، أن أول الوظائف العمالية التي ظهرت عقب الثورة الصناعية نشأت في البداية داخل مزارع العبيد، ويقول: « عوضا عن أن الناس كانوا يشتروننا ويؤجروننا، أصبحنا نؤجر أنفسنا بأنفسنا »[10].
هذه العبودية الوظيفية الحديثة هي ما دفعت فريدريك دوجلاس، أحد العبيد الأفارقة في الولايات المتحدة الأميركية الذين تخلصوا من جحيم الرق للرجل الأبيض واستطاع أن يحرر نفسه، إلى أن يقول عقب تحريره من الرق: « تظهر الخبرة إلى أنه ربما يكون هناك (عبودية للأجر) ولكنها أقل إزعاجا في آثارها من الرق التقليدي، هذه العبودية للأجر يجب أن يتم التخلص منها مع مثيلتها الرق »[11].
ويصرح تشومسكي في لقاء آخر: « إن عبودية الأجر لا تختلف كثيرا عن عبودية الرقيق، وإلى وقت قريب لم يكن هذا رأيا غريبا بل شائعا، فقد كان هناك اعتقاد سائد بأن الفرق الوحيد بين العمل للأجر والعمل كرقيق هو أن العمل للأجر من المفترض أن يكون مؤقتا بينما العمل كرقيق أمر دائم »[13].
فتثير مثل هذه المقارنات تساؤلات حول مدى التشابه والاختلاف بين الوظيفة الحديثة والرق القديم، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر كلمة رقيق هو العمل الشاق والجهد اللامحدود طوال العام من أجل السيد في مقابل إجازة الموظف وراحته الأسبوعية أو السنوية، لكن هل هذه الصورة واقعية بالفعل؟!
في عام 2013 نشرت شبكة رويترز العالمية مقالة مثيرة للدهشة بعنوان « لماذا كان للفلاح في العصر الوسيط وقت إجازة أكثر منك؟ »، نقلت المقالة بأن الفلاح قديما تحت سيده الإقطاعي كان يحصل على إجازات سنوية تتراوح بين 8 أسابيع إلى 6 أشهر، لكن بعد الثورة الصناعية والتطورات التكنولوجية الأخيرة، صار عدد أيام الأجازة سنويا الآن للموظف الأميركي العادي 8 أيام سنويا فقط[14]. وهو ما يظهر أن ظروف الاستغلال الطبقي اتجهت إلى الأسوأ وليس إلى الأحسن.
أما إذا رفض الرقيق قديما العمل لدى سيدهم فإنهم كانوا يتعرضون إلى العقوبات الجسدية أو الحرمان من الطعام، وفي إطار سوق الوظائف الحالي، فإن الموظف إذا رفض العمل فإن الخيار الوحيد أمامه هو الاستقالة من الوظيفة، وهو ما يعني في كثير من الأحيان كذلك الفقر والحرمان من الطعام. لكنّ فارقا جوهريا تحوزه الوظيفة، وهي قدرة الموظف على ترك وظيفته والانتقال إلى مساحة عمل أخرى، وهو ما لا يتاح في نظام الرق، الذي يمتلك فيه السيد رقبة العبد. لكن هذا لا يمنع تغير مساحات الاستغلال من طور لطور.
هكذا إذن تستمر حلقات استخدام الإنسان للإنسان، وتبعية شخص لآخر، فمنذ تأسيس المجتمعات الإنسانية تاريخيا خلال الأطوار الزراعية التي قامت على أسواق العبيد، إلى الثورة الصناعية التي خلقت سوقا للموظفين والعمال، لا تبدو الأحوال الاقتصادية للعبيد أو الموظفين مختلفة بشكل كبير في كلتا الحالتين، وما أن تحرر الناس من ذل الرقيق حتى وجدوا أنفسهم مكبلين بقيود الوظائف، وهو ما دفع الكثير من الحركات والمفكرين إلى صك مصطلح « عبودية الأجر » للتشبيه بينه وبين عبودية الرقيق.